الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ***
{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آَبَائِهِنَّ أَوْ آَبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31) وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32)} قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} قوله {قل للمؤمنين} بمنزلة قوله إنهم، فقوله {يغضوا} جواب الأمر، وقال المازني المعنى قل لهم غضوا {يغضوا}. ويلحق هذين من الاعتراض أن الجواب خبر من الله وقد يوجد من لا يغض وينفصل بأن المراد يكونون في حكم من يغض، وقوله {من أبصارهم} أظهر ما في {من} أن تكون للتبعيض وذلك أن أول نظرة لا يملكها الإنسان وإنما يغض فيما بعد ذلك فقد وقع التبعيض، ويؤيد هذا التأويل ما روي من قوله عليه السلام لعلي بن أبي طالب «لا تتبع النظرة فإن الأولى لك وليست لك الثانية» الحديث. وقال جرير بن عبد الله سألت النبي عليه السلام عن نظرة الفجأة فقال «اصرف بصرك» ويصح أن تكون {من} لبيان الجنس، ويصح أن تكون لأبتداء الغاية، والبصر هو الباب الأكبر إلى القلب وأعمر طرق الحواس إليه وبحسب ذلك كثر السقوط من جهته ووجب التحذير منه، و«حفظ الفروج» يحتمل أن يريد في الزنى ويحتمل أن يريد في ستر العورة والأظهر أن الجميع مراد واللفظ عام، وبهذه الآية حرم العلماء دخول الحمام بغير مئزر وقال أبو العالية كل فرج ذكر في القرآن فهو من الزنا إلا هذه الآيتين فإنه يعني التستر. قال الفقيه الإمام القاضي: ولا وجه لهذا التخصيص عندي وباقي الآية بين وظاهره والتوعد، وقوله تعالى: {وقل للمؤمنات} الآية أمر الله تعالى النساء في هذه الآية بغض البصر عن كل ما يكره من جهة الشرع النظر إليه، «وفي حديث أم سلمة قالت: كنت أنا وعائشة عند النبي صلى الله عليه وسلم فدخل ابن أم مكتوم فقال النبي عليه السلام» احتجبن «فقلنا: أعمى، فقال النبي عليه السلام» أفعمياوان أنتما؟ «و {من} تحتمل ما تقدم في الأولى، و» حفظ الفروج «يعم الفواحش وستر العورة وما دون ذلك مما فيه حفظ، وأمر الله تعالى بأن {لا يبدين زينتهن} للناظرين إلا ما استثناه من الناظرين في باقي الآية، ثم استثنى ما يظهر من الزينة، فاختلف الناس في قدر ذلك، فقال ابن مسعود ظاهر الزينة هو الثياب، وقال سيعد ين جبير الوجه والثياب، وقال سعيد بن جبير أيضاً وعطاء والأوزاعي الوجه والكفان والثياب، وقال ابن عباس وقتادة والمسور بن مخرمة ظاهر الزينة هو الكحل والسواك والخضاب إلى نصف الذراع والقرطة والفتخ ونحو هذا فمباح أن تبديه المرأة لكل من دخل عليها من الناس، وذكر الطبري عن قتادة في معنى نصف الذراع حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم وذكر آخر عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال الفقيه الإمام القاضي: ويظهر لي في محكم ألفاظ الآية أن المرأة مأمورة بأن لا تبدي وأن تجتهد في الإخفاء لكل ما هو زينة، ووقع الاستثناء في كل ما غلبها فظهر بحكم ضرورة حركة فيما لا بد منه أو إصلاح شأن ونحو ذلك، فما ظهر على هذا الوجه فهو المعفو عنه فغالب الأمر أن الوجه بما فيه والكفين يكثر فيهما الظهور، وهو الظاهر في الصلاة، ويحسن بالحسنة الوجه ان تستره إلا من ذي حرمة «محرمة» ويحتمل لفظ الآية أن الظاهر من الزينة لها أن تبديه ولكن يقوي ما قلناه الاحتياط ومراعاة فساد الناس فلا يظن أن يباح للنساء من إبداء الزينة إلا ما كان بذلك الوجه والله الموفق للصواب برحمته، وقرأ الجمهور «ولْيضربن» بسكون اللام التي هي للأمر، وقرأ أبو عمر في رواية عباس عنه و«لِيضربن» بكسر اللام على الأصل لأن أصل لام الأمر الكسر في «ليذهب وليضرب»، وإنما تسكينها كتسكين عضد وفخذ، وسبب هذه الآية أن النساء كن في ذلك الزمان إذا غطين رؤوسهن بالأخمرة سدلنها من وراء الظهر قال النقاش كما يصنع النبط فيبقى النحر والعنق والأذنان لا ستر على ذلك فأمر الله تعالى ب «الخمار على الجيوب» وهيئة ذلك يستر جميع ما ذكرناه، وقالت عائشة رضي الله عنها: رحم الله المهاجرات الأول لما نزلت هذه الآية عمدن إلى أكثف المروط فشققنها أخمرة وضربن بها على الجيوب. ودخلت على عائشة حفصة بنت أخيها عبد الرحمن وقد اختمرت بشيء يشف عن عنقها وما هنالك فشقته عليها وقالت إنما يضرب بالكثيف الذي يستر، ومشهور القراءة ضم الجيم من «جُيوبهن» وقرأ بعض الكوفيين بكسرها بسبب الياء كقراءتهم ذلك في بيوت وشيوخ ذكره الزهراوي. {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ ءَابَآئِهِنَّ أَوْ ءَابَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَآئِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَآءِ} المعنى في هذه الآية ولا يقصدن ترك الإخفاء للزينة الباطنة كالخلخال والأقراط ونحوه ويطرحن مؤونة التحفظ إلا مع من سمي وبدأ تعالى ب «البعولة» وهو الأزواج لأن إطلاعهم يقع على أعظم من هذا، ثم ثنى به المحارم وسوى بينهم في إبداء الزينة ولكنهم تختلف مراتبهم في الحرمة بحسب ما في نفوس البشر، فلا مرية أن كشف الأب والأخ على المرأة أحوط من كشف ولد زوحها، وتختلف مراتب ما يبدي لهم فيبدي للأب ما لا يجوز إبداؤه لولد الزوج، وقوله {أو نسائهن} يعني جميع المؤمنات فكأنه قال أو صنفهن، ويدخل في هذا الإماء المؤمنات ويخرج منه نساء المشركين من أهل الذمة وغيرهم، وكتب عمر رضي الله عنه إلى أبي عبيدة: «أنه بلغني أن نساء أهل الذمة يدخلن الحمامات مع نساء المسلمين فامنع من ذلك وحل دونه فإنه لا يجوز أن ترى الذمية عرية المسلمة. قال فعند ذلك قام أبو عبيدة فابتهل وقال: أيما امرأة تدخل الحمام من غير عذر لا تريد إلا أن تبيض وجهها فسود الله وجهها يوم تبيض الوجوه. وقوله: {أو ما ملكت أيمانهن} يدخل فيه الإماء الكتابيات ويدخل فيه العبيد عند جماعة من أهل العلم، وهو الظاهر من مذهب عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما، وقال ابن عباس وجماعة من العلماء لا يدخل العبد على سيدته فيرى شعرها ونحو ذلك إلا أن يكون وغداً، فمنعت هذه الفرقة الكشف بملك اليمين وأباحته بأن يكون من {التابعين غير أولي الإربة} وفي بعض المصاحف «ملكت أيمانكم» فيدخل فيه عبدالغير، وقوله {أو التابعين} يريد الأتباع ليطعموا المفسول من الرجال الذين لا إربة لهم في الوطء فهي شرطان، ويدخل في هذه الصفة المجبوب والمعتوه والمخنث والشيخ الفاني والزمن الموقوذ بزمانته ونحو هذا هو الغالب في هذه الأصناف، ورب مخنث لا ينبغي أن يكشف، ألا ترى إلى حديث هند، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كشفه على النساء لما وصف بادنة بنت غيلان بن معتب، وتأمل ما روي في أخبار الدلال المخنث وكذلك الحمقى والمعتوهون فيهم من لا ينبغي أن يكشف، والذي «لا إربة له» من الرجال قليل و{الإربة} الحاجة إلى الوطء، وعبر عن هذا بعض المفسرين، قال هو الذي يتبعك لا يريد إلا الطعام وما تؤكله، وقرأ عاصم وابن عامر «غيرَ» بالنصب وهو على الحال من الذكر الذي في {التابعين}، وقرأ الباقون «غيرِ» بالخفض على النعت ل {التابعين} والقول فيها كقول في {غير المغضوب} [الفاتحة: 7] وقوله {أو الطفل} اسم جنس بمعنى الجمع ويقال طفل ما لم يراهق الحلم، و{يظهروا} معناه يطلعون بالوطء، والجمهور على سكون الواو من «عوْرات»، وروي عن ابن عامر فتح الواو، وقال الزجاج الأكثر سكون الواو، كجوزات وبيضات لثقل الحركة على الواو والياء، ومن قرأ بالفتح فعلى الأصل في فعلة وفعلات. {وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَنْكِحُواْ الأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} أسند الطبري عن المعتمر عن أبيه قال: زعم حضرمي أن امرأة اتخذت برتين من فضة واتخذت جزعاً فجعلت في ساقيها فمرت على القوم فضربت برجلها الأرض فوقع الخلخال على الجزع فصوت فنزلت هذه الآية، وسماع هذه الزينة أشد تحريكاً للشهوة من إبدائها، ذكره الزجاج، قال مكي رحمه الله ليس في كتاب الله آية أكثر ضمائر من هذه جمعت خمسة وعشرين ضميراً للمؤمنات من مخفوض ومرفوع، وقرأ عبد الله بن مسعود «ليعلم ما سر من زينتهن» ثم أمر عز وجل بالتوبة مطلقة وقد قيد توبة الكفار بالإخلاص وبالانتهاء في آية أخرى، وتوبة أهل الذمة بالتبيين، يريد لأمر محمد عليه السلام وأمر بهذه التوبة مطلقة عامة من كل شيء صغير وكبير، وقرأ الجمهور «أيُّهَ» بفتح الهاء، وقرأ ابن عامر «أيُّهَ» بضم الهاء ووجهه أن تجعل الهاء كأنها من نفس الكلمة فيكون إعراب المنادى فيها، وضعف أبو علي ذلك جداً، وبعضهم يقف «أية» وبعضهم يقف «أيها» بالألف، وقوى أبو علي الوقف بالألف لأن علة حذفها في الوصل إنما هي سكونها وسكون اللام فإذا كان الوقف ذهبت العلة فرجعت الألف كما ترجع الياء إذا وقفت على {محلي} [المائدة: 1] من قوله {غير محلي الصيد} [المائدة: 1]، والاختلاف الذي ذكرناه في {أيه المؤمنون} كذلك هو في {أيه الساحر} [الزخرف: 49] و{أيه الثقلان} [الرحمن: 31] وقوله تعالى: {وأنكحوا الأيامى} هذه المخاطبة لكل من تصور أن ينكح في نازلة ما، فهم المأمورون بتزويج من لا زوج له وظاهر الآية أن المرأة لا تتزوج إلا بولي، والأيم يقال للرجل وللمرأة ومنه قول الشاعر: «لله در بني على أيم منهم وناكح»، ولعموم هذا اللفظ قالت فرقة إن هذه الآية ناسخة لحكم قوله تعالى: {والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين} [النور: 3] وقوله: {والصالحين} يريد للنكاح، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «من عبيدكم» والجمهور على «عبادكم» والمعنى واحد إلا أن قرينة الترفيع بالنكاح يؤيد قراءة الجمهور، وهذا الأمر بالإنكاح يختلف بحسب شخص شخص، ففي نازلة يتصور وجوبه، وفي نازلة الندب وغير ذلك وهذا بحسب ما قيل في النكاح، ثم وعد الله تعالى بإغناء الفقراء المتزوجين طلب رضى الله عنهم واعتصاماً من معاصيه، وقال ابن مسعود التمسوا الغنى في النكاح، وقال عمر رضي الله عنه عجبي ممن لا يطلب الغنى بالنكاح وقد قال تعالى: {إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله}، قال النقاش هذه الآية حجة على من قال إن القاضي يفرق بين الزوجين إذا كان الزوج فقيراً لا يقدر على النفقة لأن الله قال {يغنهم} ولم يقل يفرق بينهما، وهذا انتزاع ضعيف، وليست هذه الآية حكماً فيمن عجز عن النفقة وإنما هي وعد بالإغناء كما وعد مع التفرق في قوله تعالى: {وإن يتفرقا يغن الله كلاًّ من سعته} [النساء: 13] ونفحات رحمة الله مأمولة في كل حال موعود بها، وقوله: {واسع عليم} صفتان نحو المعنى الذي فيه القول أي {واسع} الفضل {عليم} بمستحق التوسعة والإغناء.
{وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آَتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)} {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَءَاتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي ءَاتَاكُمْ} «استعف» وزنه استفعل ومعناه طلب أن يكون عفيفاً، فأمر الله تعالى في هذه الآية كل من يتعذر عليه النكاح ولا يجده بأي وجه تعذر أن يستعف، ثم لما كان أغلب الموانع على النكاح عدم المال وعد بالإغناء من فضله، فعلى هذا التأويل يعم الأمر بالاستعفاف كل من تعذر عليه النكاح بأي وجع تعذر، وقالت جماعة من المفسرين «النكاح» في هذه الآية اسم ما يمهر وينفق في الزواج كاللحاف واللباس لما يلتحف به ويلبس، قال القاضي وحملهم على هذا قوله: {حتى يغنيهم الله من فضله}، فظنوا أن المأمور بالاستعفاف إنما هو من عدم المال الذي يتزوج به، وفي هذا القول تخصيص المأمورين بالاستعفاف وذلك ضعيف، ثم أمر الله تعالى المؤمنين كافة أن يكاتب منهم كل من له مملوك، وطلب المملوك الكتابة وعلم سيده منه {خيراً}، قال النقاش سببها أن غلاماً لحويطب بن عبد العزى سأل مولاه الكتابة فأبى عليه، وقال مكي هو صبيح القبطي غلام حاطب بن أبي بلتعة، ولفظ {الكتاب} في الآية مصدر كالقتال والجلاد ونحوه من مصادر فاعل، والمكاتبة مفاعلة من حيث هذا يكتب على نفسه وهذا على نفسه، واختلف الناس هل هذا الأمر بالكتابة على الوجوب أو على الندب على قولين، فمذهب مالك رحمه الله أن ذلك على الندب، وقال عطاء ذلك واجب وهو ظاهر قول عمر لأنس بن مالك في سيرين حين سأل سيرين الكتابة فتلكأ أنس فقال عمر كاتبه أو لأضربنك بالدرة، وهو قول عمرو بن دينار والضحاك، واختلف الناس في المراد ب «الخير»، فقالت فرقة: هو المال ولم تر على سيد عبد أن يكاتب إلا إذا علم أن له مالاً يؤدي منه أو من التجر فيه، وروي عن ابن عمر وسلمان أنهما أبيا من كتابة عبدين رغبا في الكتابة ووعدا باسترفاق الناس، فقال كل واحد منهما لعبده أتريد أن تطعمني أوساخ الناس، وقال مالك إنه ليقال «الخير» القوة والأداء، وقال الحسن بن أبي الحسن «الخير» هو صدق الموعد وقلة الكذب والوفاء وإن لم يكن للعبد مال، وقال عبيدة السلماني «الخير» هو الصلاح في الدين عَ وهذا في ضمنه القول الذي قبله، والمكاتب عبد ما بقي عليه درهم، وحرمة العتق إنما يتلبس بها بعد الأداء هذا قول جمهور الأمة، وقال ابن مسعود إذا أدى ثلث الكتابة فهو عتيق غريم، وقال علي بن أبي طالب العتاقة تجري فيه بأول نجم، وقوله تعالى: {وآتوهم}، قال المفسرون هو أمر لكل مكاتب أن يضع للعبد من مال كتابته، واستسحن ذلك علي بن أبي طالب أن يكون ذلك ربع الكتابة، قال الزهراوي وروي ذلك عن النبي عليه السلام، واستحسن الحسن بن أبي الحسن وابن مسعود ثلثها وقال قتادة عشرها، ورأى عمر بن الخطاب أن يكون ذلك من أول نجومه مباردة إلى الخير خوف أن لا يدرك آخرها، ورأى مالك رحمه الله وغيره أن يكون الوضع من آخر نجم، وعلة ذلك أنه إذا وضع من أول نجم ربما عجز العبد، فرجع هو وماله إلى السيد، فعادت إليه وضيعته، وهي شبه الصدقة، وهذا قول عبدالله بن عمر، ورأى مالك رحمه الله هذا الأمر على الندب ولم ير لقدر الوضيعة حداً، ورأى الشافعي وغيره الوضيعة واجبة يحكم بها الحاكم على المكاتب وعلى ورثته، وقال الحسن والنخعي، وبريدة إنما الخطاب بقوله تعالى: {وآتوهم} للناس أجمعين في أن يتصدقوا على المكاتبين وأن يعينوهم في فكاك رقابهم، وقال زيد بن أسلم إنما الخطاب لولاة الأمور بأن يعطوا المكاتبين من مال الصدقة حظهم وهو الذي تضمنه قوله تعالى: {وفي الرقاب} [البقرة: 177]. قوله عز وجل: {وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَآءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَلَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ ءَايَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِين} روي أن سبب هذه الآية هو أن عبدالله بن أبي ابن سلول كانت له أمة تسمى مسيكة، وقيل معادة، فكان يأمرها بالزنا والكسب به، فشكت ذلك إلى النبي عليه السلام، فنزلت الآية فيه وفيمن فعل فعله من المنافقين وقوله: {إن أردن تحصناً} راجع إلى «الفتيات»، وذلك أن الفتاة إذا أرادت التحصن فحينئذ يتصور ويمكن أن يكون السيد مكرهاً، ويمكن أن ينهى عن الإكراه وإذا كانت الفتاة لا تريد التحصن، فلا يتصور أن يقال للسيد لا تكرهها لأن الإكراه لا يتصور فيها هي مريدة للزنا، فهذا أمر في سادة وفتيات حالهم هذه، وذهب هذا النظر عن كثير من المفسرين فقال بعضهم قوله: {إن أردن} راجع إلى {الأيامى} [النور: 32] في قوله: {وأنكحوا الأيامى منكم}، وقال بعضهم هذا الشرط في قوله: {إن أردن} ملغى ونحو هذا مما ضعف والله الموفق للصواب برحمته، وعرض {الحياة الدنيا}، في هذه الآية الشيء الذي تكتسبه الأمة بفرجها ومعنى باقي الآية بين {فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم}، بهن، وقد يتصور الغفران والرحمة بالمكرهين بعد أن تقع التوبة من ذلك، فالمعنى {غفور} لمن تاب، وقرأ ابن مسعود وجابر بن عبدالله وابن جبير «لهن غفور رحيم» بزيادة «لهن»، ثم عدد تعالى على المؤمنين نعمه فيها أنزل إليهم من الآيات المنيرات، وفيما ضرب لهم من أمثال الماضين من الأمم، ليقع التحفظ مما وقع أولئك فيه وفيما ذكر لهم من المواعظ، وقرأ جمهور الناس «مبينَّات» بفتح الياء أي بينها الله تعالى وأوضحها، وقرأ الحسن وطلحة وعاصم والأعمش «مبيِّنات» بكسر الياء أي بينت الحق وأوضحته.
{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)} «النور» في كلام العرب الأضواء المدركة بالبصر ويستعمل فيما صح من المعاني ولاح فيقال منه كلام له نور ومنه الكتاب المنير ومنه قول الشاعر: [الكامل] نسب كأن عليه من شمس الضحى *** نوراً ومن فلق الصباح عمودا والله تعالى ليس كمثله شيء فبين أنه ليس كالأضواء المدركة ولم يبق للآية معنى إلا أنه أراد {الله} ذو {نور السماوات والأرض} أي بقدرته أنارت أضواؤها واستقامت أمورها وقامت مصنوعاتها، فالكلام على التقريب للذهن، كما تقول الملك نورالأمة أي به قوام أمورها وصلاح جملتها، والأمر في الملك مجاز وهو في صفة الله تعالى حقيقة محضة، إذ هو الذي أبدع الموجودات وخلق العقل نوراً هادياً لأن ظهور الوجود به حصل كما حصل بالضوء ظهور المبصرات تبارك الله لا رب سواه، وقالت فرقة التقدير دين الله {نور السماوات والأرض}، قال ابن عباس هادي أهل السماوات والأرض والأول أعم للمعاني وأوضح مع التأمل، وقرأ عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة وأبو عبدالرحمن السلمي الله «نَوّرَ» بفتح النون والواو المشددة وفتح الراء على أنه فعل، وروي أن اليهود لما نزلت هذه الآية جسموا في تأوليها واعترضوا محمداً عليه السلام بأن قالوا كيف هو نور الأرض والسماء بيننا وبينه، فنزلت حينئذ {مثل نوره كمشكاة} الآية أي ليس الأمر كما ظننتم وإنما هو نور بأنه قوام كل شيء وخالقه وموجده {مثل نوره} كذا وكذا، واختلف المتأولون في الضمير في {نوره} على من يعود، فقال كعب الأحبار وابن جبير هو عائد على محمد عليه السلام أي مثل نور محمد، وقال أبي بن كعب وابن جبير والضحاك هو عائد على المؤمنين، وفي قراءة أبي بن كعب «مثل نور المؤمنين»، وروي أن في قراءته «نور المؤمن»، وروي أن فيها «مثل نور من آمن به»، وقال الحسن هو عائد على القرآن والإيمان، قال مكي بن أبي طالب وعلى هذه الأقوال يوقف على قوله {والأرض}. قال القاضي أبو محمد: وهذه أقوال فيها عود الضمير على من لم يجر له ذكر، وفيها تقطع المعنى المراد بالآية، وقالت فرقة الضمير في {نوره} عائد على {الله}، ثم اختلفت هذه الفرقة في المراد ب «النور» الذي أضيف إلى الله تعالى إضافة خلق إلى خالق كما تقول سماء الله وناقة الله، فقال بعضها هو محمد، وقال بعضها هو المؤمن، وقال بعضها هو الإيمان والقرآن، وهذه الأقوال متجهة مطرد معها المعنى فكأن اليهود لما تأولوا {الله نور السماوات والأرض} بمعنى الضوء، قيل لهم ليس كذلك وإنما هو نور فإنه قوام كل شيء وهاديه مثل نوره في محمد أو في القرآن، والإيمان {كمشكاة} وهي الكوة غير النافذة فيها القنديل ونحوه. وهذه الأقوال الثلاثة تطرد فيها مقابلة جزء من المثال لجزء من الممثل، فعلى قول من قال الممثل به محمد عليه السلام، وهو قول كعب الحبر، فرسول الله صلى الله عليه وسلم، هو «المشكاة» أو صدره، و{المصباح} هو النبوءة وما يتصل بها من عمله وهداه، و{الزجاجة} قلبه و«الشجرة المباركة» هي الوحي والملائكة رسل إليه وسببه المتصل به، والزيت هو الحجج والبراهين، والآيات التي تضمنها الوحي، وعلى قول من قال الممثل به المؤمن وهذا قول أبي بن كعب، ف «المشكاة» صدره، و{المصباح} الإيمان والعلم، و{الزجاجة} قلبه و«الشجرة» القرآن، وزيتها هو الحجج والحكمة التي تضمنها، قال أبي فهو على أحسن الحال يمشي في الناس كالرجل الحي يمشي في قبور الأموات، ومن قال إن الممثل به القرآن والإيمان فتقدير الكلام {مثل نوره} الذي هو الإيمان في صدر المؤمن في قلبه {كمشكاة}، أي كهذه الجملة وهذا القول ليس في مقابلة التشبيه كالأولين، لأن المشكاة ليست تقابل الإيمان، وتحتمل الآية معنى آخر ليس فيه مقابلة جزء من المثال لجزء من الممثل بل وقع التشبيه فيه جملة بجملة كهذه الجملة من النور الذي تتخذونه أنتم على هذه الصفة التي هي أبلغ صفات النور الذي بين أيدي الناس، أي فمثل نور الله في الوضوح كهذا الذي هو منتهاكم أية البشر، و«المشكاة» الكوة في الحائط غير النافذة، قاله ابن جبير وسعيد بن عياض وجمهور المفسرين، وهي أجمع للضوء، و{المصباح} فيها أكثر إنارة من غيرها، وقال مجاهد «المشكاة» العمود الذي يكون {المصباح} على رأسه، وقال أبو موسى «المشكاة» الحديدة أو الرصاصة التي يكون فيها الفتيل في جوف الزجاجة، وقال مجاهد ايضاً «المشكاة» الحدائد التي يعلق بها القنديل، والأول أصح هذه الأقوال، وقوله {في زجاجة} لأنه جسم شفاف {المصباح} فيه أنور منه في غير الزجاج، و{المصباح} الفتيل بناره وأمال الكسائي فيما روى عنه أبو عمرو الداني الألف من «مشكاة» فكسر الكاف التي قبلها، وقرأ نصر بن عاصم «في زَجاجة» بفتح الزاي، و«الزجاجة» كذلك وهي لغة، وقوله: {كأنها كوكب دري} أي في الإنارة والضوء وذلك يحتمل معنين: إما أن يريد انها بالمصباح كذلك، وإما أن يريد أنها في نفسها لصفائها وجودة جوهرها كذلك. قال الفقيه الإمام القاضي: وهذا التأويل أبلغ في التعاون على النور، قال الضحاك «الكوكب الدري» الزهرة، وقرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم «دُريّ» بضم الدال وشد الياء. ولهذه القراءة وجهان: إما أن ينسب الكوكب إلى الدر لبياضه وصفائه، وإما أن يكون أصله دريء مهموز من الدرء وهو الدفع وخففت الهمزة، وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم «دريء» بالهمزة وهو فعيل من الدرء بمعنى أنها تدفع بعضها بعضاً أو بمعنى أن بهاءها يدفع خفاءها، وفعيل بناء لا يوجد في الأسماء إلا في قولهم مريق للعصفور وفي السرية إذا اشتقت من السرو، ووجه هذه القراءة أبو علي، وضعفها غيره، وقرأ أبو عمرو والكسائي «دريء» على وزن فعيل بكسر الفاء من الدرء وهذه متوجهة، وقرأ قتادة «دَريء» بفتح الدال والهمز قال أبو الفتح وهذا عزيز وإنما عزيز وإنما حفظ منه السكّينة بشد الكاف، وقرأ سعيد بن المسيب وأبو رجاء ونصر بن عاصم «دري» بفتح الدال دون همزة، وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وطلحة والأعمش والحسن وقتادة وابن وثاب وعيسى «توقد» بضم التاء أي الزجاجة، وقرأ أبو عمرو وأهل الكوفة والحسن وابن محيصن «تَوَقّدُ» بفتح التاء والواو وشد القاف وضم الدال أي الزجاجة، وقرأ أبو عمرو أيضاً وابن كثير «تَوقَد» بفتح التاء والدال أي المصباح، وقرأ عاصم فيما روى عنه إسماعيل «يوقد» بالياء المرفوعة على معنى يوقد المصباح، قال أبو الفتح وقرأ السلمي والحسن وابن محيصن وسلام وقتادة «يَوَقَّدُ» بفتح الياء والواو والقاف والمشددة ورفع الدال أصله يتوقد، وقوله {من شجرة} أي من زيت شجرة، و«المباركة» المنمأة، و«الزيتون» من أعظم الثمار نماء واطراد أفنان وغضارة ولا سيما بالشام والرمان كذلك والعيان يقضي بذلك، وقول أبي طالب يرثي مسافر بن أبي عمرو بن امية «ابن شمس»: [الخفيف] ليت شعري مسافر بن أبي عمرو *** «وليتٌ» يقولها المحزون بورك الميّت الغريب كما بو *** رك الرمّانُ والزيتون وقوله تعالى: {لا شرقية ولا غربية} قرأ الجمهور فيهما بالخفض عطفاً على {زيتونة}، وقرأ الضحاك «لا شرقيةٌ ولا غربيةٌ» بالرفع، واختلف المتأولون في معناه، فقال ابن عباس فيما حكى عنه الطبري معناه أنها شجرة في دوحة قد أحاطت بها فهي غير منكشفة من جهة الشرق ولا من جهة الغرب. قال الفقيه الإمام القاضي: وهذا قول لا يصح عندي عن ابن عباس لأن الوجود يقتضي أَن الشجرة التي تكون بهذه الصفة ينفسد جناها، وقال الحسن ليست هذه الشجرة من شجر الدنيا وإنما هو مثل ضربه الله لنوره ولو كانت في الدنيا لكانت إما شرقية وإما غربية، وقال ابن زيد أراد أَنها من شجر الشام لأن شجر الشام هي أفضل الشجر وهي «الأرض المباركة»، وقال ابن عباس وعكرمة وقتادة وغيرهم المعنى في قوله: {لا شرقية ولا غربية} أنها في منكشف من الأرض تصيبها الشمس طول النهار تستدير عليها أي فليست خالصة للشرق فتسمى شرقية ولا للغرب فتسمى غربية، وقوله: {يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار} مبالغة في صفة صفائه وحسنه وجودته، وقرأ الجمهور «تمسسه» بالتاء من فوق، وقرأ ابن عباس والحسن بالياء من تحت، وقوله: {نور على نور} أي هذه كلها معاون تكامل بها هذا النور الممثل به وفي هذا الموضع تم المثال، ثم ذكر تعالى هداه لنوره من شاء وأسعد من عباده وذكر تفضله في ضرب الأمثال للعباد ليقع لهم العبرة والنظر المؤدي إلى الإيمان.
{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37)} الباء في {بيوت}: تضم وتكسر، واختلف في الفاء من قوله {في} فقيل هي متعلقة ب {مصباح} [النور: 35] قال أبو حاتم وقيل متعلقة ب {يسبح} المتأخر، فعلى هذا التأويل يوقف على {عليم} [النور: 38] قال الرماني هي متعلقة ب {يوقد} [النور: 35] واختلف الناس في البيوت التي أَرادها بقوله تعالى: {في بيوت أذن الله أن ترفع} فقال ابن عباس والحسن ومجاهد هي المساجد المخصوصة لله تعالى التي من عادتها أن تنور بذلك النوع من المصابيح، وقال الحسن بن أَبي الحسن أراد بيت المقدس وسماه بيوتاً من حيث فيه مواضيع يتحيز بعضها عن بعض. قال الفقيه الإمام القاضي: ويؤثر، أن عادة بني إسرائيل في وقيد بيت المقدس كانت غاية في التهمم به، وكان الزيت منتخباً مختوماً على ظروفه قد صنع صنعة وقدس حتى لا يجزى الوقيد بغيره، فكان لهذا ونحوه أضوأ بيوت الأرض، وقال عكرمة أراد بيوت الإِيمان على الإطلاق مساجد ومساكن فهي التي يستصبح فيها بالليل للصلاة وقراءة العلم، وقال مجاهد أراد بيوت النبي صلى الله عليه وسلم. قال القاضي أبو محمد: وقوله تعالى: {يسبح له فيها بالغدو والآصل رجال} يقوي أنها المساجد وقوله: {أذن} بمعنى أمر وقضى، وحقيقة الإذن العلم والتمكين دون حظر فإن اقتران بذلك أمر وإنفاذ كان أقوى، و{ترفع}، قيل معناه تبنى وتعالى، قاله مجاهد وغيره فذلك كنحو قوله تعالى: {وإذ يرفع إبراهيم القواعد} [البقرة: 127] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من بنى مسجداً من ماله بنى الله له بيتاً في الجنة»، وفي هذا المعنى أحاديث، وقال الحسن بن أبي الحسن وغيره معناه تعظم ويرفع شأنها، وذكر {اسمه} تعالى، هو بالصلاة والعبادة قولاً وفعلاً، وقرأ ابن كثير وعاصم «يسبَّح» بفتح الباء المشددة، وقرأ الباقون وحفص عن عاصم «يسبِّح» بكسر الباء، ف {رجال} على القراءة الأولى مرتفع بفعل مضمر يدل عليه {يسبح} تقديره يسبحه رجال، فهذا عند سيبويه نظير قول الشاعر: «ليبك يزيد ضارع لخصومة» أي يبكيه ضارع، و{رجال} على القراءة الثانية مرتفع ب {يسبح} الظاهر، وروي عن يحيى بن وثاب أنه قرأ «تسبح» بالتاء من فوق، و{الغدو والآصال} قال الضحاك أراد الصبح والظهر، وقال ابن عباس أراد ركعتي الضحى والعصر وإن ركعتي الضحى لفي كتاب الله وما يغوص عليها إلا غواص، وقرأ أبو مجلز «والإيصال» ثم وصف تعالى المسبحين بأنهم لمراقبتهم أمر الله تعالى وطلبهم لرضاه لا يشغلهم عن الصلاة وذكر الله شيء من أمور الدنيا، وقال كثير من الصحابة نزلت هذه الآية في أَهل الأَسواق الذين إذا سمعوا النداء بالصلاة تركوا كل شغل وبادروا إليها، فرأى سالم بن عبد الله بن عمر أهل الأسواق وهم مقبلون إلى الصلاة فقال هؤلاء الذين أراد الله تعالى بقوله: {لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله}، وروي ذلك عن ابن مسعود، {وإقام}، مصدر من أقام يقيم أصله أقوام نقلت حركة الواو إلى القاف فبقيت ساكنة والألف ساكنة فحذفت للالتقاء، فجاء {إقام}، بعض النحويين هو مصدر بنفسه قد لا يضاف وقيل لا يجوز أقمته إقاماً، وإنما يستعمل مضافاً، ذكره الرماني وقال بعضهم من حيث رأوه لا يستعمل إلا مضافاً ألحقت به هاء عوضاً من المحذوف فجاء إقامة، فهم إذا أضافوه حذفوا العوض لاستغنائهم عنه بأَن المضاف والمضاف إليه كاسم واحد، و{الزكاة} هنا عند ابن عباس الطاعة لله، وقال الحسن هي الزكاة المفروضة في المال، و«اليوم المخوف» الذي ذكره تعالى، هو يوم القيامة، واختلف الناس في تقلب {القلوب والأبصار} كيف هو، فقالت فرقة يرى الناس الحقائق عياناً فتتقلب قلوب الشاكين ومعتقدي الضلال عن معتقداتها إلى اعتقاد الحق على وجهه وكذلك الأبصار وقالت فرقة هو تقلبها على جمر جهنم. قال الفقيه الإمام القاضي: ومقصد الآية إنما هو وصف هول يوم القيامة، فأما القول الأول فليس يقتضي هولاً وأما الثاني فليس التقلب في جمر جهنم يوم القيامة وإنما هو بعده. وإنما معنى الآية عندي أن ذلك اليوم لشدة هولة ومطلعه، القلوب والأبصار فيه مضطربة قلقة متقلبة من طمع في النجاة إلى طمع ومن حذر هلاك إلى حذر، ومن نظر في هول إلى النظر في الآخر، والعرب تستعمل هذا المعنى في الحروب ونحوها ومنه قول الشاعر: «بل كان قلبك في جناحي طائر» ومنه قول بشار كان فؤاده كرة تنزى، ومنه قول الآخر: «إذا حلق النجيد وصلصل الحديد» وهذا كثير.
{لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)} اللام في قوله {ليجزيهم} متعلقة بفعل مضمر تقديره فعلوا ذلك ويسروا لذلك ونحو هذا، ويحتمل أن تكون متعلقة ب {يسبح} [النور: 36] وقوله {أحسن ما عملوا} فيه حذف مضاف تقديره ثواب أحسن ثم وعدهم عز وجل بالزيادة من فضله على ما تقتضيه أعمالهم، فأهل الجنة أبداً في مزيد، ثم ذكر أنه {يرزق من يشاء} ويخصه بما يشاء من رحمته دون حساب ولا تعديد، وكل تفضل لله فهو {بغير حساب}، وكل جزاء على عمل فهو بحساب، ولما ذكر الله تعالى فيما تقدم من هذه الآية حالة الإيمان والمؤمنين وتنويره قلوبهم عقب ذلك بذكر الكفرة وأعمالهم فمثل لها ولهم تمثيلين: الأول منهما يقتضي حال أعمالهم في الآخرة من أنها غير نافعة ولا مجدية، والثاني يقتضي حالها في الدنيا من أنها في الغاية من الضلال والغمة التي مآلها ما ذكر من تناهي الظلمة في قوله {أو كظلمات}، و«السراب» ما ترقرق من الهواء في الهجير في فيافي الأرض المنسبطة وأوهم الناظر إليه على البعد أنه ماء، سمي بذلك لأنه ينسرب كالماء فكذلك أعمال الكافر يظن في دنياه أنه نافعته فإذا كان يوم القيامة لم يجدها شيئاً فهي كالسراب الذي يظنه الرائي العطشان ماء فإذا قصده وأتعب نفسه بالوصول إليه لم يجد شيئاً، و«القيعة» جمع قاع كجيرة وجار والقاع المنخفض البساط من الأرض ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في مانع زكاة الأنعام «فيبطح لها بقاع قرقر»، وقيل القيعة مفرد، وهو بمعنى القاع، وقرأ مسلم بن محارب «بقيعات»، وقرأ أبو جعفر وشيبة ونافع بخلاف «الظمان» بفتح الميم وطرح حركة الهمزة على الميم وترك الهمزة، وقوله {حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً} يريد {شيئاً} نافعاً في العطش، أو يريد {شيئاً} موجوداً على العموم ويريد ب {جاءه} جاء موضعه الذي تخيله فيه ويحتمل أن يعود الضمير في {جاءه} على «السراب»، ثم يكون في الكلام بعد ذلك متروك يدل عليه الظاهر تقديره فكذلك الكافر يوم القيامة يظن عمله نافعاً {حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً} ويحتمل الضمير أن يعود على العمل الذي يدل عليه قوله {أعمالهم} ويكون تمام المثل في قوله {ماء} ويستغني الكلام عن متروك على هذا التأويل، لكن يكون في المثل إيجاز واقتضاب لوضوح المعنى المراد به، وقوله {ووجد الله عنده} أي بالمجازاة، والضمير في {عنده} عائد على العمل، وباقي الآية بين فيه توعد وسرعة الحساب من حيث هو يعلم لا تكلف فيه وقوله تعالى: {أو كظلمات} عطف على قوله {كسراب}، وهذا المثال الأخير تضمن صفة أعمالهم في الدنيا، أي إنهم من الضلال ونحوه في مثل هذه الظلمة المجتمعة من هذه الأشياء، وذهب بعض الناس إلى أن في هذا المثال أجزاء تقابل أجزاء من الممثل فقال «الظلمات» الأعمال الفاسدة والمعتقدات الباطلة، و«البحر اللجي» صدر الكافر وقلبه، و«اللجي» معناه ذو اللجة، وهي معظم الماء وغمره واجتماع ما به أشد لظلمته، و«الموج» هو الضلال والجهالة التي غمرت قلبه والفكر المعوجة، و«السحاب» هو شهوته في الكفر وإعراضه عن الإيمان وما رين به على قلبه. قال الفقيه الإمام القاضي: وهذا التأويل سائغ وإن لا يقدر هذا التقابل سائغ، وقرأ سفيان بن حسين «أوَ كظلمات» بفتح الواو، وقرأ جمهور السبعة «سحابٌ» بالرفع والتنوين «ظلمات» بالرفع، وقرأ ابن كثير في رواية قنبل «سحابٌ» بالرفع والتنوين «ظلمات» بالخفض على البدل من «ظلمات» الأول، وقرأ ابن أبي بزة عن ابن كثير «سحابُ» بغير تنوين على الإضافة على الظلماتٍ، وقوله {إذا أخرج يده لم يكد يراها} لفظ يقتضي مبالغة الظلمة، واختلف الناس في هذه اللفظ هل يقتضي أن هذا الرجل المقدر في هذه الأحوال وأخرج يده رأى يده ولم يرها البتة، فقالت فرقة لم يرها جملة وذلك أن «كاد» معناها قارب فكأنه قال {إذا أخرج يده} لم يقارب رؤيتها، وهذا يقتضي نفي الرؤية جملة، وقالت فرقة بل رآها بعد عسر وشدة وكان أن لا يراها ووجه ذلك أن «كاد» إذا صحبها حرف النفي وجب الفعل الذي بعدها وإذا لم يصحبها انتفى الفعل عَ وهذا لازم متى كان حرف النفي بعد «كاد» داخلاً على الفعل الذي بعدها، تقول: كاد زيد يقوم، فالقيام منفي فإذا قلت كاد زيد أن لا يقوم فالقيام واجب واقع، وتقول كاد النعام يطير، فهذا يقتضي نفي الطيران عنه، فإذا قلت كاد النعام أن يطير وجب الطيران له، فإذ كان حرف النفي مع «كاد» فالأمر محتمل مرة يوجب الفعل ومرة ينفيه، تقول المفلوج لا يكاد يسكن فهذا كلام صحيح تضمن نفي السكون، وتقول رجل متكلم لا يكاد يسكن، فهذا كلام صحيح يتضمن إيجاب السكون بعد جهد ونادراً ومنه قوله تعالى: {فذبحوها وما كادوا يفعلون} [البقرة: 71] نفي مع كاد تضمن وجوب الذبح، وقوله في هذه الآية {لم يكد يراها} نفي مع كاد يتضمن في أحد التأويلين، نفي الرؤية، ولهذا ونحوه قال سيبويه رحمه الله إن أفعال المقاربة لها نحو آخر بمعنى أنها دقيقة التصرف، وقوله تعالى: {ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور} قالت فرقة يريد في الدنيا، أي من لم يهده الله لم يهتد، وقالت فرقة أراد في الآخرة أي من لم يرحمه الله وينور حاله بالعفو والرحمة فلا رحمة له، والأول أبين وأليق بلفظ الآية، وأيضاً فذلك لازم نور الآخرة إنما هو لمن نور قلبه في الدنيا وهدى، وقد قررت الشريعة أن من مر لآخرته على كفره فهو غير مرحوم ولا مغفور له.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42)} {ألم تر} تنبيه، و«الرؤية» رؤية الفكر، قال سيبويه كأنه قال انتبه الله يسبح له من في السماوات، والتسبيح هنا التعظيم والتنزيه فهو من العقلاء بالنطق وبالصلاة من كل ذي دين، واختلف في تسبيح {الطير} وغير ذلك مما قد ورد الكتاب بتسبيحه، فالجمهور على أنه تسبيح حقيقي وقال الحسن وغيره هو لفظ تجوز وإنما تسبيحه بظهور الحكمة فيه، فهو لذلك يدعو إلى التسبيح، وقال المفسرون قوله {من في السماوات والأرض} عامة لكل شيء من له عقل وسائر الجمادات، لكنه لما اجتمع ذلك عبر عنه ب {من} تغليباً لحكم من يعقل، و{صافات} معناه مصطفة في الهواء، وقرأ الأعرج «والطيرَ» بنصب الراء، وقرأ الحسن و«الطيرُ صافاتٌ» مرفوعتان وقوله: {كل قد علم صلاته وتسبيحه} قال الحسن المعنى كل قد علم صلاة نفسه وتسبيح نفسه فهو يثابر عليها، قال مجاهد «الصلاة» للبشر و«التسبيح» لما عداهم، وقالت فرقة المعنى كل قد علم صلاة الله وتسبيح الله اللذين أمر بهما وهدى إليهما فهذه إضافة خلق إلى خالق، وقال الزجاج وغيره المعنى {كل قد علم} الله {صلاته وتسبيحه} فالضميران للكل، وقرأت فرقة «عُلم صلاتُه وتسبيحُه» بالرفع وبناء الفعل للمفعول الذي لم يسم فاعله ذكرها أبو حاتم، وقرأ الجمهور «يفعلون» بالياء على معنى المبالغة في وصف قدرة الله وعلمه بخلقه، وقرأ عيسى والحسن «تفعلون» بالتاء من فوق ففيه المعنى المذكور وزيادة الوعيد والتخويف من الله تعالى وإعلام بعد بكون الملك على الإطلاق له وتذكيره بأمر المصير إليه والحشر يقوي أمر التخويف من الله تعالى وفي مصحف أبي بن كعب وابن مسعود «والله بصير بما تفعلون».
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44)} «الرؤية في هذه الآية رؤية عين والتقدير أن أمر الله وقدرته، و{يزجي} معناه يسوق، والإزجاء إنما يستعمل في سوق كل ثقيل ومدافعته كالسحاب والإبل المزاحف كما قال الفرزدق» على مزاحيف تزجيها مخارير «، والبضاعة المزجاة التي تحتاج من الشفاعة والتحسين إلى ما هو كسوق الثقيل، ومنه قول حبيب في الشيب،» ونحن نزجيه «، وسيبويه أبداً يقول في كلامه فأنت تزجيه إلى كذا أي تسوقه ثقيلاً متباطئاً، وقوله {يؤلف بينه} أي بين مفترق السحاب نفسه لأن مفهوم السحاب يقتضي أن بينه فروجاً، وهذا كما تقول جلست بين الدور ولو أضيفت» بين «إلى مفرد لم يصح إلا أن تريد آخر، لا تقول جلست بين الدار إلا أن تريد وبين كذا، وورش عن نافع لا يهمز» يولف «وقالون عن نافع والباقون يهمزون» يؤلف «وهو الأصل، و» الركام «الذي يركب بعضه بعضاً ويتكاثف، والعرب تقول إن الله تعالى إذا جعل السحاب ركاماً بالريح عصر بعضه بعضاً فخرج {الودق} منه ومن ذلك قوله تعالى: {وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجاً} [النبأ: 14] ومن ذلك قول حسان بن ثابت: [الكامل] كلتاهما حلب العصير *** فعاطني بزجاجة أرخاهما للمفصل ويروى للمِفصل بكسر الميم وبفتح الصاد، فالمِفصل واحد المفاصيل والمفصل اللسان ويروى بالقاف، أراد حسان الخمر والماء الذي مزجت به أي هذه من عصر العنب وهذه من عصر السحاب، فسر هذا التفسير قاضي البصرة عبد الله بن الحسن العنبري للقوم الذين حلف صاحبهم بالطلاق أن يسأل القاضي عن تفسير بيت حسان، و{الودق} المطر ومنه قول الشاعر: [المتقارب] فلا مزنة ودقت ودقها *** ولا أرض أبقل إبقالها وقرأ جمهور الناس» من خلاله «وهو جمع خلل كجبل وجبال، وقرأ ابن عباس والضحاك» من خلله «، وقرأ عاصم والأعرج» وينزّل «على المبالغة والجمهور على التخفيف، وقوله {من جبال فيها من برد} قيل تلك حقيقة وقد جعل الله تعالى في السماء جبالاً {من برد} وقالت فرقة ذلك مجاز وإنما أراد وصف كثرته وهذا كما تقول عند فلان جبال من المال وجبال من العلم أي في الكثرة مثل الجبال، وحكي عن الأخفش تقديره زيادة {من} في قوله: {من برد} وهو قول ضعيف، و{من} في قوله {من السماء} في لابتداء الغاية، وفي قوله {من الجبال} هي للتبعيض، وفي قوله {من برد} هي لبيان الجنس، و» السنا «مقصور، الضوء والسناء، ممدود، المجد والارتفاع في المنزلة، وقرأ الجمهور» سنا «بالقصر، وقرأ طلحة بن مصرف» سناء «بالمد والهمز. وقرأ طلحة أيضاً «بُرَقةَ» بضم الباء وفتح الراء وهي جمع «بُرْقة» بضم الباء وسكون الراء فعلة وهي القدر من البرق كلقمة ولقم وغرفة وغرف، وقرأ الجمهور «يَذهب» بفتح الياء، وقرأ أبو جعفر «يُذهب» بضمها من أذهب كأن التقدير يذهب النفوس بالأبصار نحو قوله {ينبت بالدهن} [المؤمنون: 20] ويحتمل أن يكون مثل قوله {ومن يرد فيه بإلحاد بظلم} [الحج: 25] فالباء زائدة دالة على فعل يناسبها ثم اقتضت لفظ الآية الإخبار عن تقبله الليل والنهار والإتيان بهذا بعد هذا دون توطئة هو الذي تعجز عنه الفصحاء حتى يقع منهم التخليق في الألفاظ والتوطئة بالكلام وباقي الآية بين.
{وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45) لَقَدْ أَنْزَلْنَا آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46) وَيَقُولُونَ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50)} هذه آية اعتبار، وقرأ حمزة والكسائي «والله خالق كل» على الإضافة، وقرأ الجمهور «والله خلق كل»، و«الدابة» كل من يدب من الحيوان أي تحرك منتقلاً أمامه قدماً، ويدخل فيه الطير إذ قد يدب ومنه قول الشاعر: «دبيب قطا البطحاء في كل منهل»، ويدخل في الحوت وفي الحديث «دابة من البحر مثل الظرب»، وقوله {من ماء} قال النقاش أراد أمنية الذكور، وقال جمهور النظرة أراد أن خلقة كل حيوان أن فيها ماء كما خلق آدم من الماء والطين، وعلى هذا يتخرج قول النبي عليه السلام للشيخ الذي سأل في غزاة بدر ممن أنتما؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم «نحن من ماء...» الحديث، و«المشي علي البطن» للحيات والحوت ونحوه من الدود وغيره، و«على الرجلين» للإِنسان والطير إذا مشى، و«الأربع» لسائر الحيوان، وفي مصحف أبي بن كعب «ومنهم من يمشي على أكثر» فعم بهذه الزيادة جميع الحيوان، ولكنه قرآن لم يثبته الإجماع، لكن قال النقاش: إنما اكتفى لقول بذكر ما {يمشي على أربع} عن ذكر ما يمشي على الأكثر لأن جميع الحيوان إنما اعتماده على أربع وهي قوام مشيه وكثرة الأرجل في بعضه زيادة في الخلقة لا يحتاج ذلك الحيوان في مشيه إلى جميعها. قال القاضي أبو محمد: والظاهر أن تلك الأرجل الكثيرة ليست باطلاً بل هي محتاج إليها في تنقل الحيوان وفي كلها تتحرك في تصرفه وقوله {آيات مبينات} يعم كل ما نصب الله تعالى من آية وصنعه للعبرة وكل ما نص في كتابه من آية تنبيه وتذكير وأخبر تعالى أنه أنزل الآيات، ثم قيد الهداية إليها لأنها من قبله لبعض دون بعض، وقوله تعالى: {ويقولون آمنا بالله} الآية نزلت في المنافقين وسببها فيما روي أن رجلاً من المنافقين اسمه بشر كانت بينه وبين رجل من اليهود خصومة فدعاه اليهودي إلى التحاكم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان المنافق مبطلاً فأبى من ذلك ودعا اليهود إلى كعب بن الأشرف فنزلت هذه الآية فيه، وأسند الزهراوي عن الحسن بن أبي الحسن أنه قال من دعاه خصمه إلى حكم من حكام المسلمين فلم يجب فهو ظالم، و{مذعنين} أي مظهرين للانقياد والطاعة وهم إنما فعلوا ذلك حيث أيقنوا بالنجح وأما إذا طلبوا بحق فهم عنه {معرضون} ثم وقفهم تعالى على أسباب فعلهم توقيف توبيخ أي ليقروا مما يوبخ به أو مما يمدح به فهو بليغ جداً ومنه قول جرير «ألستم خير من ركب المطايا» البيت، ثم حكم عليهم بأنهم {هم الظالمون} وقال: {أن يحيف الله عليهم ورسوله} من حيث الرسول إنما يحكم بأمر الله وشرعه والميل الحيف.
{إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54)} وقرأ الجمهور «قولَ» بالنصب، وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه والحسن وابن أبي إسحاق «قولُ» بالرفع، واختلف عنهما قال أبو الفتح شرط {كان} أن يكون اسمها أعرف من خبرها فقراءة الجمهور أقوى، والمعنى إنما كان الواجب أن يقوله المؤمنون {إذا دعوا إلى} حكم {الله ورسوله} {سمعنا وأطعنا} فكأن هذه ليست إخباراً عن ماضي زمن وإنما كقول الصديق: ما كان لابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وجعل الدعاء إلى الله من حيث هو إلى شرعة ودينه، وقرأ الجمهور «ليَحكُم» على بناء الفعل للفاعل، وقرأ أبو جعفر والجحدري وخالد بن الياس والحسن «ليُحكَم» على بناء الفعل للمفعول، و{المفلحون} البالغون آمالهم في دنياهم وآخرتهم، و«جهد اليمين» بلوغ الغاية في تعقيدها و{ليخرجن} معناه إلى الغزو وهذه في المنافقين الذين تولوا حين {دعوا إلى الله ورسوله} وقوله: {قل لا تقسموا طاعة معروفة} يحتمل معاني أحدها النهي عن القسم الكاذب إذ عرف أن طاعتهم دغلة رديئة. فكأنه يقول لا تغالطوا فقد عرف ما أنتم عليه، والثاني أن يكون المعنى لا تتكلفوا القسم طاعة متوسطة على قدر الاستطاعة أمثل وأجدى عليكم، وفي هذا الوجه إبقاء عليهم، والثالث أن يكون المعنى لا تقنعوا بالقسم طاعة تعرف منكم وتظهر عليكم هو المطلوب منكم، والرابع أن يكون المعنى لا تقنعوا لأنفسكم بإرضائنا بالقسم، طاعة الله معروفة وشرعه وجهاد عدوه مهيع لائح، وقوله {إن الله خبير} متصل بقوله: {لا تقسموا}، و{طاعة معروفة}، اعتراض بليغ، وقوله {قل أطيعوا الله} الآية مخاطبة لأولئك المنافقين وغيرهم من الكفار وكل من يتعتى عن أمر محمد عليه السلام، وقوله {تولوا} معناه تتولوا محذوف التاء الواحدة يدل على ذلك، قوله: {وعليكم ما حملتم} ولو جعلنا {تولوا} فعلاً ماضياً وقدرنا في الكلام خروجاً من خطاب الحاضر إلى ذكر الغائب لاقتضى الكلام أن يكون بعد ذلك وعليهم ما حملوا، والذي حمل رسول الله صلى الله عليه وسلم هو التبليغ ومكافحة الناس بالرسالة وإعمال الجهد في إنذارهم، والذي حمل الناس هو السمع والطاعة واتباع الحق وباقي الآية بين، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي ونافع في رواية ورش «ويتقهي» بياء بعد الهاء قال أبو علي وهو الوجه. وقرأ قالون عن نافع «ويتقهِ» بكسر الهاء لا يبلغ بها الياء، وقرأ أبو عمرو وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر «ويتقهْ» جزماً للهاء، وقرأ حفص عن عاصم {ويتقه} بسكون وكسر الهاء.
{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57)} قرأ الجمهور «استخلَف» على بناء الفعل للفاعل، وقرأ أبو بكر عن عاصم والأعرج، «استُخلِف» على بناء الفعل للمفعول، وروي أن سبب هذه الآية أن أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم شكا جهد مكافحة العدو وما كانوا فيه من الخوف على أنفسهم وأنهم لا يضعون أسلحتهم فنزلت هذه الآية عامة لأمة محمد عليه السلام، وقوله {في الأرض} يريد في البلاد التي تجاورهم والأصقاع التي قضى بامتدادهم إليها، و«استخلافهم» هو أن يملكهم ويجعلهم أهلها كما جرى في الشام وفي العراق وخراسان والمغرب، وقال الضحاك في كتاب النقاش هذه الآية تتضمن خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي لأنهم أهل الإيمان وعمل الصالحات، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الخلافة بعدي ثلاثون سنة» قال الفقيه الإمام القاضي: والصحيح في الآية أنها في استخلاف الجمهور، واللام في قوله {ليستخلفنهم} لام القسم، وقرأ حمزة والكسائي وابن عامر «ليبَدّلنهم» بفتح الباء وشد الدال، وقرأ ابن كثير وعاصم في رواية أبي بكر والحسن وابن محيصن بسكون الباء وتخفيف الدال، وجاء في معنى تبديل خوفهم بالأمن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال أصحابه: ما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع السلام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تغبرون إلا قليلاً حتى يجلس الرجل منكم في الملأِ العظيم محتبياً ليس في حديدة»، وقوله {يعبدونني} فعل مستأنف أي هم يعبدونني، قوله {ومن كفر} يحتمل أن يريد كفر هذه النعم إذا وقعت ويكون «الفسق» على هذا غير المخرج عن الملة، قال بعض الناس في كتاب الطبري ظهر ذلك في قتلة عثمان رضي الله عنه، ويحتمل أن يريد الكفر والفسق المخرجين عن الملة وهو ظاهر قول حذيفة بن اليمان فإنه قال كان على عهد النبي نفاق وقد ذهب ولم يبق إلا كفر بعد إيمان، ولما قدم تعالى شرط عمل الصالحات بينها في هذه الآية، فنص على عظمها وهي إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وعم بطاعة الرسول لأنها عامة لجميع الطاعات، و{لعلكم} معناه في حقكم ومعتقدكم، ثم أنحى القول على الكفرة بأن نبه على أنهم ليسوا بمفلتين من عذاب الله، وقرأ جمهور السبعة «لا تحسبن» بالتاء على المخاطبة للنبي عليه السلام، وقرأها الحسن بن أبي الحسن بفتح السين، وقرأ حمزة وابن عامر «لا يحسبن» بالياء قال أبو علي، وذلك يحتمل وجهين أحدهما أن يكون التقدير لا يحسبن محمد والآخر أن يسند الفعل إلى {الذين كفروا} والمفعول أنفسهم، وأعجز الرجل، إذا ذهب في الأرض فلم يقدر عليه ثم أخبر بأن «مأواهم النار» وأنها بئس الخاتمة والمصير.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58)} قال ابن عمر {الذين ملكت} يراد به الرجال خاصة، وقال أبو عبد الرحمن السلمي يراد به النساء خاصة وسبيل الرجال يستأذنوا في كل وقت، وحكى الزهراوي عن أبي عمر ونحوه، وقيل الرجال والنساء كلهم مراد ورجحه الطبري، وقرأ الجمهور الناس «الحلُم» بضم اللام وكان أبو عمرو يستحسنها، وهذه الآية محكمة قال ابن عباس تركها الناس وكذلك ترك الناس قوله: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} [الحجرات: 113] فأبى الناس إلا أن الأكرم هو الأنسب. قال الفقيه الإمام القاضي: وهذه العبارة بترك إغلاظ وزجر إذ لم تلتزم حق الالتزام، وإلا فما قال الله هو المعتقد في ذلك العلماء المكتوب في تواليفهم، أعني في أن الكرم التقوى وأما أمر الاستئذان فإن تغيير المباني والحجب أغنت عن كثير من الاستئذان، وصيرته على حد آخر، وأين أبواب المنازل اليوم من مواضع النوم وقد ذكر المهدوي عن ابن عباس أنه قال كان العمل بهذه الآية واجباً إذ كانوا لا غلق ولا أبواب ولو عادت الحال لعاد الوجوب. قال الفقيه الإمام القاضي: فهي الآن واجبة في كثير من مساكن المسلمين في البوادي والصحارى ونحوها، ومعنى الآية عند جماعة من العلماء أن الله تعالى أدب عباده بأن يكون العبيد إذ لا بال لهم والأطفال الذين لم يبلغوا إلا أنهم عقلوا معاني الكشفة ونحوها يستأذنون على أهليهم في هذه الأوقات الثلاثة وهي الأوقات التي تقتضي عادة الناس الانكشاف فيها وملازمة التعري في المضاجع، وهي عند الصباح لأن الناس في ذلك الوقت عراة في مضاجعهم وقد ينشكف النائم، فمن مشى ودخل وخرج فحكمه أن يستأذن لئلا يطلع على ما يجب ستره، وكذلك في وقت القائلة وهي الظهيرة لأن النهار يظهر فيها إذا علا واشتد حره، وبعد العشاء لأنه وقت التعري للنوم والتبدل للفراش، وأما غير هذه الأوقات التي هي عروة أي ذات انكشاف، فالعرف من الناس التحرز والتحفظ فلا حرج في دخول هذه الصنيفة بغير إذن إذ هم {طوافون} يمضون ويجيئون لا يجد الناس بدأ من ذلك. وقرأ ابن أبي عبلة «طوافين» وقال الحسن إذا أبات الرجل خادمه معه فلا استئذان عليه ولا في هذه الأوقات الثلاثة، وقوله {بعضكم على بعض} بدل من قوله {طوافون} و{ثلاثَ عورات} نصب على الظرف لأنهم لم يؤمروا بالاستئذان ثلاثاً إنما أمروا بالاستئذان ثلاث مواطن، فالظرفية في {ثلاث} بينة، قرأ جمهور السبعة «ثلاثُ عورات» برفع «ثلاثُ» وهذا على الابتداء، وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم «ثلاثَ عورات» بنصب «ثلاث»، وهذه على البدل من الظرف في قوله {ثلاث مرات}، وهذا البدل إنما يصح معناه بتقدير أوقات «ثلاث عورات» فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، و{عورات} جمع عورة وبابه في الصحيح أن يجيء على فعلات بفتح العين كجفنة وجفنات ونحو ذلك وسكنوا العين في المعتل كبيضة وبيضات وجوبة وجوبات ونحوه لأن فتحه داع إلى اعتلاله فلم يفتح لذلك.
{وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)} المعنى أن {الأطفال} أمروا بالاستئذان في الأوقات الثلاثة المذكورة وأبيح لهم الأمر في غير ذلك من الأوقات، ثم أمرتعالى في هذه الآية أن يكونوا إذا بلغوا {الحلم} على حكم الرجال في الاستئذان في كل وقت وهذا بيان من الله عز وجل، وقوله: {والقواعد}، يريد النساء اللائي قد أسنن وقعدن عن الولد واحدتهن قاعد. وقال ربيعة هي هنا التي تستقذر من كبرها، قال غيره وقد تقعد المرأة عن الولد وفيها مستمتع فلما كان الغالب من النساء أن ذوات هذا السن لا مذهب للرجل فيهن أبيح لهن ما لم يبح لغيرهن. وأزيل عنهن كلفة التحفظ المتعب إذ علة التحفظ مرتفعة منهن، وقرأ ابن مسعود «أن يضعن من ثيابهن» وهي قراءة أبي وروي عن ابن مسعود أيضاً «من جلابيبهن»، والعرب تقول امرأة واضع للتي كبرت فوضعت خمارها، ثم استثني عليهن في وضع الثياب أن لا يقصدن به التبرج وإبداء الزينة، فرب عجوز يبدوا منها الحرص على أن يظهر لها جمال ونحو هذا مما هو أقبح الأشياء وأبعده عن الحق، و«التبرج» طلب البدو والظهور إلخ.... والظهور للعيون ومنه {بروج مشيدة} [النساء: 78] وأصل ذلك بروج السماء والأسوار، والذي أبيح وضعه لهذه الصنيفة الجلباب الذي فوق الخمار والرداء، قاله ابن مسعود وابن جبير وغيرهما، ثم ذكر تعالى أن تحفظ الجميع منهن واستعفافهن عن وضع الثياب والتزامهن ما يلزمه الشباب من الستر أفضل لهن وخير، وقرأ ابن مسعود «وأن يعففن» بغير سين، ثم ذكر تعالى {سيمع} لما يقول كل قائل وقائلة، {عليم} بمقصد كل أحد في قوله، وفي هاتين الصفتين توعد، وتحذير والله الموفق للصواب برحمته.
{لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آَبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)} اختلف الناس في المعنى الذي رفع الله فيه «الحرج» عن الأصناف الثلاثة، فظاهر الآية وأمر الشريعة أن الحرج عنهم مرفوع في كل ما يضطرهم إليه العذر وتقتضي نيتهم الإتيان بالأكمل، ويقتضي العذر أن يقع منهم الأنقص، فالحرج مرفوع عنهم في هذا. فأما ما قال الناس في هذا «الحرج» هنا فقال ابن زيد هو الحرج في الغزو أي لا حرج عليهم في تأخرهم، وقوله: {ولا على أنفسكم} الآية معنى مقطوع من الأول، وقالت فرقة الآية كلها في معنى المطاعم قال وكانت العرب ومن بالمدينة قبل المبعث تتجنب الأكل مع أهل الأعذار فبعضهم كان يفعل ذلك تقذراً لجولان اليد من {الأعمى} ولانبساط الجلسة من {الأعرج} ولرائحة المريض وعلاته وهي أخلاق جاهلية وكبر، فنزلت مؤيدة، وبعضهم كان يفعل ذلك تحرجاً من غبن أهل الأعذار إذ هم مقصرون في الأكل عن درجة الأصحاء لعدم الرؤية في {الأعمى} وللعجز عن المزاحمة في {الأعرج} ولضعف المريض فنزلت الآية في إباحة الأكل معهم، وقال ابن عباس في كتاب الزهراوي أن أهل هذه الأعذار تحرجوا في الأكل مع الناس لأجل عذرهم فنزلت الآية مبيحة لهن، وقال ابن عباس أيضاً الآية من أولها إلى آخرها إنما نزلت بسبب أن الناس، لما نزلت {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} [البقرة: 188] قالوا لا مال أعز من الطعام وتحرجوا من أن يأكل أحد مع هؤلاء فيغبنهم في الأكل فيقع في أكل المال بالباطل، وكذلك تحرجوا عن أكل الطعام القرابات لذلك فنزلت الآية مبيحة جميع هذه المطاعم ومبينة تلك إنما هي في التعدي والقمار وكل ما يأكله المرء من مال الغير والغير كاره أو بصفة فاسدة ونحوه، وقال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود قوله في الأصناف الثلاثة إنما نزلت بسبب أن الناس كانوا إذا نهضوا إلى الغزو، خلفوا أهل العذر في منازلهم وأموالهم، فكان أهل العذر يتجنبون أكل مال الغائب، فنزلت الآية مبيحة لهم أكل الحاجة من طعام الغائب إذا كان الغائب قد بنى على ذلك، وقيل كان الرجل إذا ساق أهل العذر إلى بيته فلم يجد فيه شيئاً ذهب بهم إلى بيت قرابته فتحرج أهل الأعذار من ذلك، فنزلت الآية وذكر الله تعالى بيوت القرابات وسقط منها بيوت الأبناء، فقال المفسرون ذلك داخل في قوله {من بيوتكم} لأن بيت ابن الرجل بيته، وقرأ طلحة بن مصرف «إمهاتكم» بكسر الهمزة وقوله: {أم ما ملكتم مفاتحه} يعني ما حزتم وصار في قبضتكم، فعظمه ما ملكه الرجل في بيته وتحت غلقه وذلك هو تأويل الضحاك ومجاهد، وعند جمهور المفسرين يدخل في الآية الوكلاء والعبيد والأجراء بالمعروف، وقرأ جمهور الناس «مَلَكتم» بفتح الميم واللام، وقرأ سعيد بن جبير «مُلِّكتم» بضم الميم وكسر اللام وشدها، وقرأ جمهور الناس «مفاتحه»، وقرأ سعيد بن جبير «مفاتيحه» بياء بين التاء والحاء الأولى على جمع مَفتح والثانية على جمع مُفتاح، وقرأ قتادة «ملكتم مفاتحه» وقرن تعالى في هذه الآية الصديق بالقرابة المحضة الوكيدة لأن قرب المودة لصيق، قال معمر: قلت لقتادة ألا أشرب من هذا الجب؟ قال أنت لي صديق فما هذا الاستئذان؟ قال ابن عباس في كتاب النقاش الصديق أوكد من القرابة، ألا ترى إلى استغاثة الجهنميين {فما لنا من شافعين ولا صديق حميم} [الشعراء: 100] وقوله {ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعاً أو أشتاتاً} رد لمذهب جماعة من العرب كانت لا تأكل أفراداً البتة، قاله الطبري، ومن ذلك قول بعض الشعراء: [الطويل] إذا صنعت الزاد فالتمسي له *** أكيلاً فإني لست آكله وحدي وكان بعض العرب إذا كان له ضيف لا يأكل إلا أن يأكل مع ضيفه فنزلت هذه الآية مبينة سنة الأكل ومذهبة كل ما خلفها من سنة العرب، ومبيحة من أكل المنفرد ما كان عند العرب محرماً نحت به نحو كرم الخلق فأفرطت في إلزامه وأن إحضار الأكيل لحسن ولكن بأن لا يحرم الانفراد، وقال بعض أهل العلم هذه الآية منسوخة بقوله عليه السلام: «إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام» وبقوله تعالى: {لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا} [النور: 27] وبقوله عليه السلام من حديث ابن عمر «لا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه» الحديث، ثم ختم الله تعالى الآية بتبيينه سنة السلام في البيوت، واختلف المتأولون في أي البيوت أراد، فقال إبراهيم النخعي أراد المساجد، والمعنى سلموا على من فيها من صنفكم فهذا كما قال {لقد جاءكم رسول من أنفسكم} [التوبة: 128] فإن لم يكن في المساجد أحد فالسلام أن يقول المرء السلام على رسول الله وقيل السلام عليكم يريد الملائكة ثم يقول السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين قوله {تحية} مصدر ووصفها بالبركة لأن فيها الدعاء واستجلاب مودة المسلم عليه والكاف من قوله {كذلك} كاف تشبيه وذلك إشارة إلى هذه السنن أي كهذا الذي وصف يطرد تبيين الآيات {لعلكم} تعقلونها وتعملون بها، وقال بعض الناس في هذه الآية إنها منسوخة بآية الاستئذان الذي أمر به الناس وهي المقدمة في السورة، فإذا كان الإذن محجوراً فالطعام أحرى، وكذلك أيضاً فرضت فرقة نسخاً بينها وبين قوله تعالى {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} [البقرة: 188]. قال الفقيه الإمام القاضي: والنسخ لا يتصور في شيء من هذه الآيات بل هي كلها محكمة، أما قوله {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} [البقرة: 188] ففي التعدي والخدع والإغرار واللهو والقمار ونحوه، وأما هذه الآية ففي إباحة هذه الأصناف التي يسرها استباحة طعامها على هذه الصفة، وأما آية الإذن فعلة إيجاب الاستئذان خوف الكشف فإذا استأذن الرجل خوف الكشفة ودخل المنزل بالوجه المباح صح له بعد ذلك أكل الطعام بهذه الإباحة وليس يكون في الآية نسخ فتأمله.
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62)} {إنما} في هذه الآية للحصر اقتضى المعنى لأنه لا يتم إيمان إلا بأن يؤمن المرء {بالله ورسوله} وبأن يكون من الرسول سامعاً غير معنت في أن يكون الرسول يريد إكمال أمر فيريد هو إفساده بزواله في وقت الجمع ونحو ذلك، و«الأمر الجامع» يراد به ما للإمام حاجة إلى جمع الناس فيه لإذاعة مصلحة، فأدب الإسلام اللازم في ذلك إذا كان الأمر حاضراً أن لا يذهب أحد لعذر إلا بإذنه، فإذا ذهب بإذن ارتفع عنه الظن السيئ، والإمام الذي يرتقب إذنه في هذه الآية هو إمام الإمرة، وقال مكحول والزهري الجمعة من «الأمر الجامع» وإمام الصلاة ينبغي أن يستأذن إذا قدمه إمام الإمرة، إذا كان يرى المستأذن، ومشى بعض الناس دهراً على استئذان إمام الصلاة وروي أن هرم بن حيان كان يخطب فقام رجل فوضع يده على أنفه وأشار إلى هرم بالاستئذان فأذن له فلما قضيت الصلاة كشف عن أمره أنه إنما ذهب لغير ضرورة. فقال هرم اللهم أخر رجال السوء لزمان السوء. قال الفقيه الإمام القاضي: وظاهر الآية إنما يقتضي أن يستأذن أمير الإمرة الذي هو في مقعد النبوة فإنه ربما كان له رأي في حبس ذلك الرجل لأمر من أمور الدين، فأما إمام الصلاة فقط فليس ذلك إليه لأنه وكيل على جزء من أجزاء الدين للذي هو في مقعد النبوة، ثم أمر الله تعالى نبيه أن يأذن لمن عرف منه صحة العذر وهم الذين يشاء، وروي أن هذه الآية نزلت في وقت حفر رسول الله صلى الله عليه وسلم خندق المدينة وذلك أن بعض المؤمنين كان يستأذن لضرورة، وكان المنافقون يذهبون دون استئذان فأخرج الله تعالى الذين لا يستأذنون عن صنيفة المؤمنين وأمر النبي عليه السلام أن يأذن للمؤمن الذي لا تدعوه ضرورة إلى حبسه وهو الذي يشاء ثم أمره بالاستغفار لصنفي المؤمنين من أذن له ومن لم يؤذن له وفي ذلك تأنيس للمؤمنين ورأفة بهم.
{لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)} هذه الآية مخاطبة لجميع معاصري رسول الله. وأمرهم الله أن لا يجعلوا مخاطبة رسول الله في النداء كمخاطبة بعضهم لبعض فإن سيرتهم كانت التداعي بالأسماء وعلى غاية البداوة وقلة الاهتبال، فأمرهم الله تعالى في هذه الآية وفي غيرها أن يدعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأشرف أسمائه وذلك هو مقتضى التوقير والتعزيز، فالمنبغي في الدعاء أن يقول يا رسول الله، وأن يكون ذلك بتوقير وخفض صوت وبر، وأن لا يجري ذلك على عادتهم بعضهم في بعض قاله مجاهد، وغيره، وقال ابن عباس المعنى في هذه الآية إنما هو لا تحسبوا دعاء الرسول عليكم {كدعاء بعضكم} على بعض أي دعاؤه عليكم مجاب فاحذروه. قال الفقيه الإمام القاضي: ولفظ الآية يدفع هذا المعنى. والأول أصح ثم أخبرهم تعالى أن المتسللين منهم {لواذاً} قد علمهم. واللواذ الروغان والمخالفة وهو مصدر لاوذ وليس بمصدر لاذ لأنه كان يقال له لياذاً ذكره الزجاج وغيره، ثم أمرهم بالحذر من عذاب الله ونقمته إذا خالفوا عن أمره، وقوله {يخالفون عن أمره} معناه يقع خلافهم بعد أمره وهذا كما تقول كان المطر عن ريح وعن هي لما عدا الشيء والفتنة في هذا الموضع الإخبار بالرزايا في الدنيا وبالعذاب الأثيم في الآخرة ولا بد للمنافقين من أحد هذين ملكاً وخلفاً، ثم أخبرهم أنه قد علم ما أهل الأرض والسماء عليه وخص منهم بالذكر المخاطبين لأن ذلك موضع الحجة عليهم وهم به أعني وقوله: {ويوم يرجعون} يجوز أن يكون معمولاً لقوله {يعلم} ويجوز أن يكون التقدير والعلم الظاهر لكم أو نحو هذا يوم فيكون النصب على الظرف، وقرأ الجمهور «يُرجَعون» بضم الياء وفتح الجيم، وقرأ يحيى بن يعمر وابن أبي إسحاق وأبو عمر «يَرجِعون» بفتح الياء وكسر الجيم، وقال عقبة بن عامر الجهني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية خاتمة النور فقال «والله بكل شيء بصير» وباقي الآية بين.
{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (3)} {تبارك} وزنه تفاعل وهو مطاوع بارك من البركة، وبارك فاعل من واحد معناه زاد، و{تبارك} فعل مختص بالله تعالى لم يستعمل في غيره، ولذلك لم يصرف منه مستقبل ولا اسم فاعل، وهو صفة فعل أي كثرت بركاته ومن جملتها إنزال كتابه الذي هو {الفرقان} بين الحق والباطل، وصدر هذه السورة إنما هو رد على مقالات كانت لقريش، فمن جملتها قولهم إن القرآن افتراه محمد صلى الله عليه وسلم وإنه ليس من عند الله فهو ردّ على هذه المقالة، وقرأ الجمهور «على عبده»، وقرأ عبد الله بن الزبير «على عباده». والضمير في قوله {ليكون} يحتمل أن يكون وهو عبده المذكور وهذا تأويل ابن زيد، ويحتمل أن يكون ل {الفرقان}، وأما على قراءة ابن الزبير فهو ل {الفرقان} لا يحتمل غير ذلك إلا بكره، وقوله {للعالمين} عام في كل إنسي وجني عاصره أو جاء بعده وهو متأيد من غير ما موضع من الحديث المتواتر وظاهر الآيات، و«النذير» المحذر من الشر والرسول من عند الله نذير، وقد يكون {نذيراً} ليس برسول كما روي في ذي القرنين وكما ورد في رسل رسل الله إلى الجن فإنهم نذر وليسوا برسل الله. وقوله {الذي له ملك السماوات} الآية هي من الرد على قريش في قولهم إن لله شريكاً، وفي قولهم اتخذ البنات، وفي قولهم في التلبية إلا شريك هو لك، وقوله {خلق كل شيء}، هو عام في كل مخلوق وتقدير الأشيء هو حدها بالأمكنة والأزمان والمقادير والمصلحة والإتقان، ثم عقب تعالى ذكر هذه الصفات التي هي للألوهية بالطعن على قريش في اتخاذهم آلهة ليست لهم هذه الصفات، فالعقل يعطي أنهم ليسوا بآلهة وقوله، {وهم يخلقون}، يحتمل أن يريد يخلقهم الله بالاختراع والإيجاد، ويحتمل أن يريد يخلقهم البشر بالنحت والنجارة وهذا التأويل أشد إبداء لخساسة الأصنام، وخلق البشر تجوز ولكن العرب تستعمله ومنه قول زهير: ولأنت تفري ما خلقت وبع *** ض القوم يخلق ثم لا يفري وهذا من قولهم خلقت الجلد إذا عملت فيه رسوماً يقطع عليها والفري هو أن يقطع على ترك الرسوم، وقوله، {موتاً ولا حياة} يريد إماتة ولا إحياء، و«النشور» بعث الناس من القبور.
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آَخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4) وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6)} المراد ب {الذين كفروا} قريش وذلك أن بعضهم قال {هذا إفك} وكذب {افتراه} محمد واختلف المتأولون في «القوم» المعينين على زعم قريش، فقال مجاهد أشاروا إلى قوم من اليهود، وقال ابن عباس أشاروا إلى عبيد كانوا للعرب من الفرس أحدهم أبو فكيهة مولى الحضرميين وجبر ويسار وعداس وغيرهم، ثم أخبر الله تعالى عنهم أنهم ما {جاؤوا} إلا إفكاً {وزوراً} أي ما قالوا إلا باطلاً وبهتاناً، و«الزور» تحسين الباطل هذا عرفه وأصله التحسين مطلقاً، ومنه قول عمر رضي الله عنه: فأردت أن أقدم بين يدي أبي بكر مقالة كنت زورتها. وقوله. {وقالوا أساطير الأولين}، قال ابن عباس يعني بذلك قول النضر بن الحارث، وذلك أن كل ما في القرآن من ذكر {أساطير الأوليين} فإنما هو بسبب قول النضر ابن الحارث حسب الحديث المشهور في ذلك ثم رموا محمداً صلى الله عليه وسلم بأنه {اكتتبها} وقرأ طلحة بن مصرف «اكتُتِبها» بضم التاء الأولى وكسر الثانية على معنى اكتتب له، ذكرها أبو الفتح، وقرأ طلحة «تُتلى» بتاء بدل الميم، ثم أمره تعالى أن يقول إن الذي أنزله هو الله {الذي يعلم} سر جميع الأشياء التي {في السماوات والأرض} ثم أعلم بأنه غفور رحيم ليرجي كل سامع في عفوه ورحمته مع التوبة والإنابة، والمعنى أن الله غفور رحيم في إبقائه على أهل هذه المقالات.
{وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9) تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا (10)} الضمير في قوله {قالوا} لقريش، وذلك أنهم كان لهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلس مشهور، ذكره ابن إسحاق في السير وغيره، مضمنة أن سادتهم عتبة بن ربيعة وغيره اجتمعوا معه فقالوا يا محمد إن كنت تحب الرياسة وليناك علينا، وإن كنت تحب المال جمعنا لك من أموالنا، فلما أبى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجعوا في باب الاحتجاج عليه فقالوا له ما بالك وأنت رسول الله تأكل الطعام وتقف بالأسواق وتريد التماس الرزق، أي إن من كان رسول الله مستغن عن جميع ذلك، ثم قالوا له سل ربك أن ينزل معك ملكاً ينذر معك أو يلقي إليك كنزاً تنفق منه، أو يرد لك جبال مكة ذهباً أو تزال الجبال ويكون مكانها جنات تطرد فيها المياه، وأشاعوا هذه المحاجة فنزلت الآية وكتبت اللام مفردة من قولهم {ما ل} هذا إما لأن على المصحف قطع لفظه فاتبعه الكاتب، وإما لأنهم رأوا أن حروف الجر بابها الانفصال نحو «في ومن وعلى وعن». وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر «يأكل منها» بالياء، وقرأ حمزة والكسائي «نأكل منها» بالنون وهي قراءة ابن وثاب وابن مصرف وسليمان بن مهران، ثم أخبر تعالى عنهم وهم {الظالمون} الذين أشير إليهم أنهم قالوا حين يئسوا من محمد صلى الله عليه وسلم {إن يتبعون إلا رجلاً مسحوراً} أي قد سحر فهو لا يرى مراشده، ويحتمل {مسحوراً} أن يكون من السحر وهي الرؤية فكأنهم ذهبوا إلى تحقيره، أي رجلاً مثلكم في الخلقة، ذكره مكي وغيره، ثم نبّهه الله تعالى مسلياً عن مقالتهم فقال {انظر كيف ضربوا لك الأمثال} بالمسحور والكاهي والساحر وغيره {فضلوا} أي أخطئوا الطريق فلا يجدون سبيل هداية ولا يطيقونه لالتباسهم بضده من الضلال، وقوله تعالى: {تبارك الذي} الآية رجوع بأمور محمد صلى الله عليه وسلم إلى الله تعالى، أي هذه جهتك لا هؤلاء الضالون في أمرك، والإشارة في ذلك قال مجاهد هي إلى ما ذكره الكفار من الكنز والجنة في الدنيا، وقال ابن عباس هي إلى أكله الطعام ومشيه في الأسواق، وقال الطبري والأول أظهر. قال القاضي أبو محمد: لأن هذا التأويل الثاني يوهم أن الجنّات والقصور التي في هذه الآية هي في الدنيا وهذا تأويل الثعلبي وغيره، ويرد ذلك قوله تعالى بعد ذلك {بل كذبوا بالساعة} [الفرقان: 11] والكل محتمل، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وحفص ونافع وأبي عمرو وحمزة والكسائي «ويجعلْ» بالجزم على العطف على موضع الجواب في قوله {جعل} لأن التقدير «تبارك الذي إن يشأ يجعل». وقرأ أبو بكر عن عاصم أيضاً وابن كثر وابن عامر «ويجعلُ» بالرفع والاستئناف، وهي قراءة مجاهد، ووجوه العطف على المعنى في قوله {جعل} لأن جواب الشرط هو موضِع الاستئناف، ألا ترى أن الجمل من الابتداء والخبر قد تقع موقع جواب الشرط، وقرأ عبد الله بن موسى وطلحة بن سليمان «ويجعلَ» بالنصب وهو على تقدير «أن» في صدر الكلام، قال أبو الفتح هي على جواب الجزاء بالواو وهي قراءة ضعيفة، وأدغم الأعرج {ويجعل لك} وروي ذلك عن ابن محيصن، و«القصور» البيوت المبنية بالجدرات قاله مجاهد وغيره، وكانت العرب تسمي ما كان من الشعر والصوف والقصب بيتاً، وتسمي ما كان بالجدرات قصراً لأنه قصر عن الداخلين والمستأذنين.
|